فصل: الآية رقم ‏(‏71 ‏:‏ 75‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏71 ‏:‏ 75‏)‏

‏{‏ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ‏.‏ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين ‏.‏ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ‏.‏ ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ‏.‏ وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم، أنه سلمه اللّه من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم، مهاجراً إلى بلاد الشام إلى الأرض المقدسة منها، عن أبي كعب قال‏:‏ هي الشام، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة، وقال قتادة‏:‏ كان بأرض العراق، فأنجاه اللّه إلى الشام، وكان يقال للشام أعقار دار الهجرة، وما نقص من الأرض يزيد في الشام، وما نقص من الشام زيد في فلسطين، وكان يقال هي أرض المحشر والمنشر وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام وبها يهلك المسيح الدجال، وقوله‏:‏ ‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة‏}‏ النافلة‏:‏ ولد الولد يعني أن يعقوب ولد إسحاق، كما قال‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏، وقال عبد الرحمن بن أسلم‏:‏ سأل واحداً فقال‏:‏ ‏{‏رب هب لي من الصالحين‏}‏ فأعطاه اللّه إسحاق وزاده يعقوب نافلة، ‏{‏وكلا جعلنا صالحين‏}‏ أي الجميع أهل خير وصلاح، ‏{‏وجعلناهم أئمة‏}‏ أي يقتدى بهم ‏{‏يهدون بأمرنا‏}‏ أي يدعون إلى اللّه بإذنه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة‏}‏ من باب عطف الخاص على العام، ‏{‏وكانوا لنا عابدين‏}‏‏:‏ أي فاعلين لما يأمرون الناس به، وكان قد آمن إبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر معه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي‏}‏ فآتاه اللّه حكماً وعلماً وأوحى إليه وجعله نبياً وبعثه إلى سدوم وأعمالها فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم اللّه ودمر عليهم كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ونجيناه من القرية

التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏76 ‏:‏ 77‏)‏

‏{‏ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ‏.‏ ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ‏}‏

يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام حين دعا على قومه لما كذبوه، ‏{‏فدعا ربه أني مغلوب فانتصر‏}‏، وقال نوح‏:‏ ‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا‏}‏، ولهذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله‏}‏ أي الذين آمنوا به، كما قال‏:‏ ‏{‏وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏من الكرب العظيم‏}‏ أي من الشدة والتكذيب والأذى فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ فلم يؤمن به منهم إلا القليل، وكانوا يتصدون لأذاه ويتواصون قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل على خلافه، وقوله‏:‏ ‏{‏ونصرناه من القوم‏}‏ أي ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا

قوم سوء فأغرقناهم أجمعين‏}‏، أي أهلكهم اللّه بعامة، ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد كما دعا عليهم نبيهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏78 ‏:‏ 82‏)‏

‏{‏ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ‏.‏ ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ‏.‏ وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ‏.‏ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ‏.‏ ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ النفش الرعي، وقال قتادة‏:‏ النفش لا يكون إلا بالليل، والهمل بالنهار، وعن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم‏}‏ قال‏:‏ كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال‏:‏ فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان‏:‏ غير هذا يا نبي اللّه، قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصب منها حتى إذا كان الكرم كما كان، دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير، وكذا روي عن ابن عباس‏"‏وروى ابن أبي حاتم، عن مسروق قال‏:‏ الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرماً فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته، فأتوا داود فأعطاهم رقابها، فقال سليمان‏:‏ لا؛ بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم وأهل الكرم كرمهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ إن إياس بن معاوية لما استقضي أتاه الحسن فبكى، فقال‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ يا أبا سعيد بلغني أن القضاة‏:‏ رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة، فقال الحسن البصري‏:‏ إن فيما قص اللّه من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكماً يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ فأثنى اللّه على سليمان ولم يذم داود، ثم قال الحسن‏:‏ إن اللّه اتخذ على الحكام ثلاثاً‏:‏ لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فيه أحداً ثم تلا‏:‏ ‏{‏يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا الناس واخشوني‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏‏.‏ وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏، وفي السنن‏:‏ القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار‏:‏ رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان، فقال‏:‏ هاتوا السكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى‏:‏ يرحمك اللّه هو ابنها لا تشقه، فقضى به للصغرى‏)‏ ‏"‏الحديث أخرجه الإمام أحمد وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وبوَّب له النسائي في كتاب القضاء‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير‏}‏ الآية، وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تأويباً، ولهذا لما مرّ النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب جداً، فوقف واستمع لقراءته، وقال‏:‏ ‏(‏لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود‏)‏، وقال‏:‏ يا رسول اللّه لو علمت أنك تستمع لحَبَّرْتُه حسنته وزينته لك تحبيراً، وقوله‏:‏ ‏{‏وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم‏}‏ يعني صنعة الدروع، قال قتادة‏:‏ إنما كانت الدروع قبله صفائح وهو أول من سردها حلقاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وألنَّا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد‏}‏ أي لا توسع الحلقة فتفلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لتحصنكم من بأسكم‏}‏ يعني في القتال، ‏{‏فهل أنتم شاكرون‏}‏ أي نعم اللّه عليكم لما ألهم به عبده داود فعلمه ذلك من أجلكم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريح عاصفة‏}‏ أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة ‏{‏تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها‏}‏ يعني أرض الشام ‏{‏وكنا بكل شيء عالمين‏}‏، وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل وتوضع آلاته وحشمه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب‏}‏، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحملهم صلى اللّه عليه وسلم أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن الشياطين من يغوصون له‏}‏ أي في الماء يستخرجون له اللالئ والجواهر وغير ذلك، ‏{‏ويعملون عملا دون ذلك‏}‏ أي غير ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وكنا لهم حافظين‏}‏ أي يحرسه اللّه أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وآخرين مقرنين في الأصفاد‏}‏‏.‏  ">الآية رقم ‏(‏83 ‏:‏ 84‏)‏">

 الآية رقم ‏(‏83 ‏:‏ 84‏)‏

‏{‏ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ‏.‏فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ‏}‏

يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده؛ وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرة ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره‏.‏ وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كان يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ تعلم واللّه لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل، حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه السلام‏:‏ ما أدري ما تقول غير أن اللّه عزَّ وجلَّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه، فارجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا اللّه إلا في حق ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن أنَس بن مالك مرفوعاً وفي رفعه نظر، كما قال ابن كثير‏:‏ رفع هذا غريب جداً‏"‏، قال ابن عباس‏:‏ ورد عليه ماله عياناً ومثلهم معهم، وقال وهب بن منبه‏:‏ أوحى اللّه إلى أيوب‏:‏ قد رردت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لما عافى اللّه أيوب أمطر عليه جراداً من ذهب، فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه قال‏:‏ فقيل له‏:‏ يا أيوب أما تشبع‏؟‏ قال‏:‏ يا رب ومن يشبع من رحمتك‏)‏ ‏"‏أصل هذا الحديث في الصحيحين‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وآتيناه أهله ومثلهم معهم‏}‏ قد تقدم عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ردوا عليه بأعينهم، وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة ويقال ليا بنت يعقوب عليه السلام، وقال مجاهد‏:‏ قيل له‏:‏ يا أيوب إن أهلك في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم، قال‏:‏ لا بل أتركهم في الجنة، فتركوا له في الجنة، وعوض مثلهم في الدنيا، وقوله‏:‏ ‏{‏رحمة من عندنا‏}‏ أي فعلنا به ذلك رحمة من اللّه به ‏{‏وذكرى للعابدين‏}‏ أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات اللّه، وابتلائه لعباده بما يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏85 ‏:‏ 86‏)‏

‏{‏ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ‏.‏ وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ‏}‏

وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وقد تقدم ذكره في سورة مريم، وكذا إدريس عليه السلام‏.‏ وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي، وقال آخرون‏:‏ إنما كان رجلاً صالحاً وكان ملكاً عادلاً وحكماً مقسطاً؛ وتوقف ابن جرير في ذلك فاللّه أعلم‏.‏ قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وذا الكفل‏}‏ قال‏:‏ رجل صالح غير نبي تكفل لبني قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمهم له، ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسمي ذا الكفل‏.‏ وقال ابن أبي حاتم، عن كنانة بن الأخنس قال‏:‏ سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر‏:‏ ما كان ذو الكفل بنبي ولكن كان - يعني في بني إسرائيل - رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة فسمي ذا الكفل ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏87 ‏:‏ 88‏)‏

‏{‏ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ‏.‏ فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك

ننجي المؤمنين ‏}

هذه القصة مذكورة ههنا وفي الصافات وفي سورة ن، وذلك أن يونس بن متى عليه السلام بعثه اللّه إلى أهل نينوى، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى اللّه تعالى، فأبوا عليه، وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، ثم تضرعوا إلى اللّه عزّ وجلّ، وجأروا إليه فرفع اللّه عنهم العذاب، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين‏}‏‏.‏

وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة، فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقععت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فساهم فكان من المدحضين‏}‏، فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل اللّه سبحانه حوتاً يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى اللّه إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً ولا تهشم له عظماً، فإن يونس ليس لك رزقاً، وإنما بطنك تكون

له سجناً، وقوله‏:‏ ‏{‏وذا النون‏}‏ يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة، وقوله‏:‏ ‏{‏إذ ذهب مغاضبا‏}‏ قال الضحّاك لقومه‏:‏ ‏{‏فظن أن لن نقدر عليه‏}‏ أي نضيّق هذا التفسير مروي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهم واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللّه‏}‏ أي ضيّق عليه في الرزق عليه في بطن الحوت، وقال عطية العوفي‏:‏ أي نقضي عليه، فإن العرب تقول‏:‏ قدر وقدّر بمعنى واحد‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقى الماء على أمر قد قدر‏}‏‏:‏ أي قدّر، وقوله‏:‏ ‏{‏فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك قال‏:‏ ‏{‏لا إله إلا أنت سبحانك

إني كنت من الظالمين‏}‏ وقيل‏:‏ مكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقوله‏:‏ ‏{‏فاستجبنا له ونجيناه من الغم‏}‏ أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات ‏{‏وكذلك ننجي المؤمنين‏}‏ أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا‏.‏ وقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت‏:‏ ‏{‏لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏}‏، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء إلا استجاب له‏)‏ ‏"‏هذا الحديث جزء من حديث طويل ذكره الإمام أحمد وورواه الترمذي والنسائي‏"‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من دعا بدعاء يونس استجيب له‏)‏، قال أبو سعيد يريد به ‏{‏وكذلك ننجي المؤمنين‏}‏‏.‏ وعن سعد بن أبي وقاص، قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اسم اللّه الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، دعوة يونس بن متى‏)‏ قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هي ليونس بن متى خاصة، ولجماعة المؤمنين عامة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين‏}‏، فهو شرط من اللّه لمن دعاه به‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن سعيد بن أبي وقاص مرفوعاً ورواه ابن أبي حاتم بمثله‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏89 ‏:‏ 90‏)‏

‏{‏ وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ‏.‏ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ‏}‏

يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه اللّه ولداً يكون من بعده نبياً، ‏{‏إذ نادى ربه‏}‏ أي خفية عن قومه ‏{‏رب لا تذرني فردا‏}‏ أي لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس ‏{‏وأنت خير الوارثين‏}‏ دعاء وثناء مناسب للمسألة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه‏}‏ أي امرأته، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ كانت عاقراً لا تلد فولدت، وقال عطاء‏:‏ كان في لسانها طول، فأصحلها اللّه، وفي رواية‏:‏ كان في خلقها شيء فأصحلها اللّه، والأظهر من السياق؛ الأول، وقوله‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا يسارعون في الخيرات‏}‏‏:‏ أي في عمل القربات وفعل الطاعات ‏{‏ويدعوننا رغبا ورهبا‏}‏ قال الثوري‏:‏ رغباً فيما عندنا، ورهباً مما عندنا ‏{‏وكانوا لنا خاشعين‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ أي مصدقين بما أنزل اللّه، وقال مجاهد‏:‏ مؤمنين حقاً، وقال أبو العالية‏:‏ خائفين، وقال الحسن وقتادة والضحّاك ‏{‏خاشعين‏}‏‏:‏ أي متذللين للّه عزَّ وجلَّ، وكل هذه الأقوال متقاربة‏.‏ وروى ابن أبي حاتم، عن عبد اللّه بن حكيم قال‏:‏ خطبنا أبو بكر رضي اللّه عنه ثم قال‏:‏ أما بعد فإني أوصيكم بتقوى اللّه، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن اللّه عزَّ وجلَّ أثنى على زكريا وأهل بيته فقال‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏91‏)‏

‏{‏ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ‏}‏

هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام، مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، فيذكر أولاً قصة زكريا، ثم يتبعها بقصة مريم، لأن تلك مربوطة بهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن، ومن امرأة عجوز عاقر، لم تكن تلد في حال شبابها، ثم يذكر قصة مريم، وهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أثنى بلا ذكر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والتي أحصنت فرجها‏}‏ يراد من الفرج‏:‏ فرج القميص‏:‏ أي لم يعلق بثوبها ريبة، أي أنها طاهرة الأثواب، قال السهيلي‏:‏ فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا من لطيف الكناية، لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظاً، وألطف إشارة، وأملح عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهلين، ولا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضعف القدس إلى القدوس ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس يعني مريم عليها السلام، كما قال في سورة التحريم‏:‏ ‏{‏ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وجعلناها وابنها آية للعالمين‏}‏ أي دلالة على أن اللّه على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏ولنجعله آية للناس‏}‏ قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏للعالمين‏}‏ قال‏:‏ العالمين الجن والإنس‏.‏

 الآية رقم ‏(‏92 ‏:‏ 94‏)‏

‏{‏ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ‏.‏ وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ‏.‏ فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ‏}‏

قال ابن عباس ‏{‏إن هذه أمتكم أمة واحدة‏}‏ يقول‏:‏ دينكم دين واحد، أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد‏)‏، يعني أن المقصود هو عبادة اللّه وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لكل جعلنا شرعة ومنهاجا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وتقطعوا أمرهم بينهم‏}‏ أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كل إلينا راجعون‏}‏ أي يوم القيامة فيجازى كل بحسب عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن‏}‏ أي قبله مصدق وعمل عملاً صالحاً ‏{‏فلا كفران لسعيه‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏إنا لا نضيع أجر من أحس عملا‏}‏ أي لا يكفر سعيه وهو عمله، بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وإنا له كاتبون‏}‏ أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏95 ‏:‏ 97‏)‏

‏{‏ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ‏.‏ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ‏.‏ واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وحرام على القرية‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وجب، يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وفي رواية عن ابن عباس أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون، والقول الأول أظهر واللّه أعلم، وقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج‏}‏ قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام، بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد

يافث‏"‏أي أبي الترك، والترك شرذمة منهم، ‏{‏حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون‏}‏ أي يسرعون في المشي إلى الفساد، والحدب هو المرتفع من الأرض ‏"‏قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم‏"‏، وهذه صفتهم في حال خروجهم، كأن السامع مشاهد لذلك ‏{‏ولا ينبئك مثل خبير‏}‏ هذا إخبار الذي يعلم غيب السماوات والأرض لا إله إلا هو، وقال ابن جرير‏:‏ رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون، فقال ابن عباس‏:‏ هكذا يخرج يأجوج ومأجوج، وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنّة النبوية، فروى الإمام أحمد، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وهم من كل حدب ينسلون‏}‏ فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول‏:‏ قد كان ههنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة، قال قائلهم‏:‏ هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء، قال‏:‏ ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة، فبينما هم على ذلك بعث اللّه عزَّ وجلَّ دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون‏:‏ ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو، قال‏:‏ فينحدر رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل، فيجدهم موتى بعضهم على بعض، فينادي‏:‏ يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن اللّه عزَّ وجلَّ قد كفاكم عدوكم، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويسرحون مواشيهم، فما يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري‏"‏‏.‏

وفي حديث الدجال‏:‏ ‏(‏فبينما هم كذلك إذ أوحى اللّه عزَّ وجلَّ إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم، فحرر عبادي إلى الطور فيبعث اللّه عزَّ وجلَّ يأجوج ومأجوج، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم من كل حدب ينسلون‏}‏ فيرغب عيسى وأصحابه إلى اللّه عزَّ وجلَّ، فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصحبون فَرْسَى كموت نفس واحدة، فيهبط عيسى وأصحابه، فلا يجدون في الأرض بيتاً إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب عيسى وأصحابه إلى

اللّه عزَّ وجلَّ، فيرسل اللّه عليهم طيراً كأعناق البُخْت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء اللّه‏(‏، قال ابن جابر‏:‏ فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال‏:‏ فتطرحهم بالمهيل، قال ابن جابر، فقلت‏:‏ يا أبا يزيد وأين المهيل‏؟‏ قال‏:‏ مطلع الشمس، قال‏:‏ ‏(‏ويرسل اللّه مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوماً، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلَقَة، ويقال للأرض انبتي ثمرك ودري بركتك، قال‏:‏ فيومئذ يأكل النفر من الرمانة، فيستظلون بقحفها ويبارك في الرسل، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر تكفي الفخذ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت، قال‏:‏ فبينما هم على ذلك إذ بعث اللّه عزَّ وجلَّ ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم - أو كما قال مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏"‏‏.‏

وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق، وعن أبي سعيد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليحجن هذا البيت وليعتمرون بعد خروج يأجوج ومأجوج‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واقترب الوعد الحق‏}‏ يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل أزفت الساعة واقتربت، فإذا كانت ووقعت، قال الكافرون‏:‏ هذا يوم عسر، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا‏}‏ أي من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام، ‏{‏يا ويلنا‏}‏ أي يقولون يا ويلنا ‏{‏قد كنا في غفلة من هذا‏}‏ أي في الدنيا، ‏{‏بل كنا ظالمين‏}‏ يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏98 ‏:‏ 103‏)‏

‏{‏ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ‏.‏ لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ‏.‏ لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ‏.‏ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ‏.‏ لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ‏.‏ لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي وقودها، يعني كقوله‏:‏ ‏{‏وقودها الناس والحجارة‏}‏‏.‏ وفي رواية قال‏:‏ ‏{‏حصب جهنم‏}‏ يعني حطب جهنم ‏"‏وهو قول مجاهد وعكرمة وقتادة‏"‏‏.‏ وقال الضحّاك ‏{‏حصب جهنم‏}‏‏:‏ أي ما يرمى به فيها، والجميع قريب، وقوله‏:‏ ‏{‏أنتم لها واردون‏}‏‏:‏ أي داخلون، ‏{‏لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها‏}‏ يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها، ‏{‏وكل فيها خالدون‏}‏‏:‏ أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون، ‏{‏لهم فيها زفير‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لهم فيها زفير وشهيق‏}‏، والزفير‏:‏ خروج أنفاسهم، والشهيق ولوج أنفاسهم ‏{‏وهم فيها لا يسمعون‏}‏، قال ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود‏:‏ إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار، فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره، ثم تلا عبد اللّه‏:‏ ‏{‏لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ قال عكرمة‏:‏ الرحمة، وقال غيره‏:‏ السعادة ‏{‏أولئك عنها مبعدون‏}‏‏.‏ لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم باللّه، عطف بذكر السعداء من المؤمنين باللّه ورسوله، وهم الذين سبقت لهم من اللّه السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏، فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن اللّه مآبهم وثوابهم ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب، فقال‏:‏ ‏{‏أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها‏}‏ أي حريقها في الأجساد، عن أبي عثمان ‏{‏لا يسمعون حسيسها‏}‏ قال‏:‏ حيات على الصراط تلسعهم، فإذا لسعتهم قال حس حس، وقوله‏:‏ ‏{‏وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون‏}‏ فسلمهم من المحذور والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أولئك عنها مبعدون‏}‏ فأولئك أولياء اللّه يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق، ويبقى الكفّار فيها جثياً، فهذا مطابق لما ذكرناه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل نزلت استثناء من المعبودين وخرج منهم عزير والمسيح كما قال ابن عباس ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم أنتم لها واردون‏}‏، ثم استثنى، فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ فيقال‏:‏ هم الملائكة وعيسى ونحو ذلك مما يعبد من دون اللّه عزّ وجلّ، وقال الضحّاك عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ قال‏:‏ نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما السلام‏.‏ وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد ‏{‏أولئك عنها مبعدون‏}‏ قال‏:‏ عيسى وعزير والملائكة، وقال الضحّاك‏:‏ عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر‏.‏ والآية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل ليكون ذلك تقريعاً وتوبيخاً لعابديها، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم‏}‏ فكيف يورد على هذا المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده‏؟‏ وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن ‏"‏ما‏"‏لما لا يعقل عند العرب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏}‏ قيل‏:‏ المراد بذلك الموت، قاله عطاء‏.‏ وقيل المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور، قاله ابن عباس واختاره ابن جرير في تفسيره‏.‏ وقيل‏:‏ حين يؤمر بالعبد إلى النار، قاله الحسن البصري؛ وقيل‏:‏ حين تطبق النار على أهلها، قاله سعيد بن جبير وابن جريج، وقوله‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم ‏{‏هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ أي فأملوا ما يسركم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏104‏)‏

‏{‏ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ هذا كائن يوم القيامة ‏{‏يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما قدروا اللّه حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏‏.‏ عن ابن عمر، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعاً‏"‏وعن ابن عباس قال‏:‏ يطوي اللّه السماوات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كطي السجل للكتب‏}‏ قيل‏:‏ المراد بالسجل الكتاب، وقيل‏:‏ المراد بالسجل ههنا ملك من الملائكة، والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة؛ فعلى هذا يكون معنى الكلام‏:‏ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب، أي على الكتاب بمعنى المكتوب كقوله‏:‏ ‏{‏فلما أسلما وتله للجبين‏}‏ أي على الجبين، وله نظائر في اللغة، واللّه أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين‏}‏ يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد اللّه الخلائق خلقاً جديداً كما بدأهم هو القادر على إعادتهم، وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد اللّه الذي لا يخلف ولا يبدل وهو القادر على ذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إنا كنا فاعلين‏}‏‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بموعظة فقال‏:‏ ‏(‏إنكم محشورن إلى اللّه عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلاً، كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين‏)‏، وذكر تمام الحديث ‏"‏الحديث أخرجاه في الصحيحين ورواه الإمام أحمد عن ابن عباس‏"‏، قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ قال‏:‏ يهلك كل شيء كما كان أول مرة‏.‏  ">الآية رقم ‏(‏105 ‏:‏ 107‏)‏">

 الآية رقم ‏(‏105 ‏:‏ 107‏)‏

‏{‏ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ‏.‏ إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ‏.‏ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وعد اللّه الذين آمكنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم‏}‏، وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محالة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الزبور الكتاب، وقال ابن عباس والحسن‏:‏ ‏{‏الزبور‏}‏ الذي أنزل على داود و‏{‏الذكر‏}‏ التوراة، وعن ابن عباس‏:‏ الذكر القرآن‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ الذكر الذي في السماء، وقال مجاهد‏:‏ الزبور الكتب، والذكر أم الكتاب عند اللّه، واختار ذلك ابن جرير رحمه اللّه، وكذا قال زيد بن أسلم هو الكتاب الأول، وقال الثوري‏:‏ هو اللوح المحفوظ‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء، والذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك، أخبر اللّه سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم الأرض، ويدخلهم الجنة وهم الصالحون ‏"‏رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏"‏‏.‏ وقال ابن عباس ‏{‏أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ قال‏:‏ أرض الجنة، وقال أبو الدرداء‏:‏ نحن الصالحون، وقال السدي‏:‏ هم المؤمنون ‏"‏وقال أبو الدرداء‏:‏ الأرض هي الشام، والصالحون‏:‏ الأمة المحمدية‏"‏‏.‏ وقوله ‏{‏إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين‏}‏ أي إن في هذا لقرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏لبلاغا‏}‏ لمنفعة وكفاية ‏{‏لقوم عابدين‏}‏ وهم الذين عبدوا اللّه فيما شرعه وأحبه ورضيه وآثروا طاعة اللّه على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ يخبر تعالى أن اللّه جعل محمداً صلى اللّه عليه وسلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر الدينا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار‏}‏‏.‏

وقال تعالى في صفة القرآن‏:‏ ‏{‏قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏‏.‏ وقال مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قيل يا رسول اللّه ادع على المشركين، قال‏:‏ ‏(‏إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏إنما أنا رحمة مهداة‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعاً، وسئل البخاري عن هذا الحديث فقال‏:‏ كان عند حفص بن غياث مرسلاً، وروي عن ابن عمر مرفوعاً‏:‏ ‏(‏إن اللّه بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين‏)‏‏"‏، وفي الحديث الذي رواه الطبراني‏:‏ ‏(‏إني رحمة بعثني اللّه ولا يتوفاني حتى يظهر اللّه دينه، لي خمسة أسماء‏:‏ أنا محمد، وأحمد، وأنا

الماحي الذي يمحو اللّه بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب‏)‏‏.‏ وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ ‏)‏أيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من ولد آدم، أغضب كما تغضبون وإنما بعثني اللّه رحمة للعالمين، فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ولفظه عن حذيفة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب فقال‏.‏‏.‏‏.‏ فذكره‏"‏، فإن قيل‏:‏ فأي رحمة حصلت لمن كفر به‏؟‏ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ قال‏:‏ من آمن باللّه واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن باللّه ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏108 ‏:‏ 112‏)‏

‏{‏ قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ‏.‏ فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ‏.‏ إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ‏.‏ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ‏.‏ قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ‏}‏

يقول تعالى آمراً رسوله صلوات اللّه وسلامه عليه أن يقول للمشركين ‏{‏إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون‏}‏‏؟‏ أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له، ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي تركوا ما دعوتهم إليه ‏{‏فقل آذنتكم على سواء‏}‏ أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنتم حرب لي، بريء منكم كما أنتم براء مني، كقوله‏:‏ ‏{‏وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنت برئيون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء‏}‏، أي ليكن عملك وعملهم بنذ العهود على السواء وهكذا ههنا ‏{‏فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء‏}‏ أي أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون‏}‏ أي هو واقع لا محالة ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده، ‏{‏إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون‏}‏ أي إن اللّه يعلم الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما العباد عاملون في إجهارهم وإسرارهم، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين‏}‏ أي وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال ابن جرير‏:‏ لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى ‏"‏وحكي هذا القول عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏، ‏{‏قال رب احكم بالحق‏}‏ أي افصل بيننا وبين قومنا المذكبين بالحق، قال قتادة‏:‏ كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون‏:‏ ‏{‏ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين‏}‏، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول ذلك‏.‏ وعن مالك، عن زيد بن أسلم‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا شهد غزاة قال‏:‏ ‏{‏رب احكم بالحق‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون‏}‏ أي على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك، واللّه المستعان عليكم في ذلك‏.‏